قابض الرمل | فصل

 

نشر الكاتب والأكاديميّ عمر خليفة، روايته الأولى الّتي جاءت بعنوان «قابض الرمل»، عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع»، حيث تقع أحداث هذه الرواية في العاصمة الأردنيّة «عمّان»، وتدور حول محاولة مجموعة من الصحفيّين إجراء مقابلة مع عجوز فلسطينيّ بهدف تسجيل ذاكرته حول النكبة الفلسطينيّة وما جرى عام 1948، لكنّ المقابلة تأخذ طريقًا مغايرًا تمامًا يُفاجئ الصحفيّين وعائلة العجوز. وفي ما يواصل الصحفيّون مسعاهم للحصول على فرصة التحدّث إلى العجوز، ينخرط حفيده في مغامرة عاطفيّة مع واحدة من أعضاء الفريق الصحفيّ.

بين مصادرة الصحفيّين للعجوز، وهيام الحفيد بالصحفيّة، تتناثر عبر الرواية خيوط سرديّة تطرح أسئلة حول الذاكرة، والمأساة، والحبّ. تقدّم الرواية شخصيّات فلسطينيّة غير معهودة، وتبتعد عن السائد في مقاربتها التخيّليّة لمسألة الذاكرة الفلسطينيّة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.

 


 

المقابلة

دخلنا الشقّة بهدوء ومعنا مسجّلات رقميّة وأوراق وألواح ذكيّة وآلات تصوير وتسعة عشر سؤالًا.

في الليلة الماضية اجتمعنا في مقهى «تيرتل غرين» في شارع «الرينبو» بعمّان. أنا وصديقي الّذي يخون زوجته وصديقتي الّتي تخون زوجها وصديقة أخرى تتحدّث ثلاث لغات بطلاقة. جلسنا طويلًا ونحن نفكّر في طبيعة الأسئلة الّتي سنوجّهها للعجوز. احتجنا إلى أسابيع كي توافق عائلته على لقائنا به. تعلّلوا بمرضه حينًا وانشغالهم حينًا آخر. كان لديه حفيد نزق يصرخ بنا كلّما اتّصلنا بهم رافضًا حتّى أن يسمعنا. صديقي الّذي يخون زوجته اقترح مرّة، في اتصال هاتفيّ بي وهو في الطريق إلى لقاء عشيقته، أن ننسى الموضوع تمامًا ونلتفت إلى تحقيق صحفيّ آخر، لكنّي صمّمت على ضرورة لقاء العجوز وأهمّيّته. كانت القضيّة أخلاقيّة بالنسبة لأغلبنا ومِنْ ثمّ فلا بأس بشيء من التعب بغية وصول الغاية. اسغرق اجتماعنا في المقهى ثلاث ساعات، واتّفق الجميع على اختياري متحدّثًا بالنيابة عنهم أمام العجوز. لم أفهم سبب اختيارهم تمامًا، لكنّي وافقت. سمّوني القائد وضحكوا. وضعنا عشرة أسئلة، وخمسة أسئلة بديلة فيما لو عَجِزَ العجوز عن الإجابة عن بعض الأسئلة العشرة، وثلاث أسئلة مشكوك في صلاحيّتها منْ باب الاحتياط، وسؤالًا واحدًا ختاميًّا يُطْرح "حسب المزاج العام"، كما أشارت صديقتي الّتي تخون زوجها. اتّفقنا أن تتولّى صديقتي الّتي تتحدّث ثلاث لغات تسجيل اللقاء بهدف تفريغه وتحريره لاحقًا. طلبْتُ من صديقي الخائن وصديقتي الخائنة إغلاق هواتفهما الخلويّة أثناء اللّقاء لتقليل درجة الإزعاج. سيقوم الخائن بالتقاط بعض الصور، وستدوّن الخائنة بعض الملاحظات على لوحها الذكيّ، أمّا أنا فسأحضّر الأوراق الّتي كتبت عليها أسئلتنا.

بدأت الحكاية قبل شهر. اتّصل بي صديقي الّذي يخون زوجته وأخبرني أنّ عائلة عشيقته الممتدّة ستحتفل بالعيد الخامس والثمانين لميلاد أحد أفرادها.

- "ستدعوك عشيقتك للحفلة إذن؟".

- "لا تمزح. الحكاية هي أنّ هذا العجوز هو آخر الأحياء الّذين شهدوا النكبة وحضروها في هذه العائلة".

- "وما شأني أنا؟".

- "يا رجل. فكّر في الموضوع. آخر الناجين من النكبة في هذه العائلة. هذه قصّة مدهشة".

- "ما قرابته بعشيقتك؟".

- "أخو جدّها".

حين عرضْتُ الموضوع على رئيس تحرير الجريدة الّتي نعمل فيها تحمّس للغاية، واختارني أنا والخائن والخائنة وخبيرة اللّغات للقيام بالمهمّة، ومنحنا مرونة مطلقة في تحقيقها وشكل المنتج الّذي سيخرج منها. اجتمعنا نحن الأربعة وتناقشنا في السبب الّذي قد يكون وراء اختيارنا للمهمّة. أوّل ما خطر لنا هو أنّنا الوحيدون في الجريدة من أصول فلسطينيّة، ولا بدّ إذنْ أنّ رئيس التحرير افترض أنّنا نحمل في دواخلنا قصصًا عن النكبة سمعناها من أجدادنا وكبار السنّ في عائلتنا. ربّما لأنّه يعرف أنّنا أصدقاء. ربّما لأنّ الخائن هو من جلب القصّة أصلًا. خرجنا لشرب القهوة في أوّل اجتماع لنا بعد اختيارنا للمهمّة. عرضت علينا الخائنة فكرة مفاجئة.

- "اذكروا شيئًا خاصًّا ومختلفًا في علاقتكم بفلسطين".

لم أعرف إنْ كان طلبها ساخرًا أم جادًّا، لكنّي كنت أوّل من تطوّع للإجابة، ولحقني البقيّة.

القائد:"لا زلت أخلط بين ترتيب ألوان العلم الفلسطينيّ".

الخائن:"كلّ النساء اللواتي ضاجعتهنّ فلسطينيّات ما عدا زوجتي".

الخائنة:"اكتشفت بعد 20 دقيقة من بدء حفل زفافي أنّ ذلك اليوم كان يصادف ذكرى النكبة".

المترجمة:"أوّل مقلوبة طبختها في حياتي احترقت بالكامل وألقيت بها في الزبالة".

لم تكن القضيّة الفلسطينيّة اختصاصنا الصحفيّ، لذلك كان علينا الرجوع لكثير من المصادر بالعربيّة وغيرها. كان الهدف الأساسيّ من اللقاء هو نشر تحقيقي صحفيّ عن العجوز، يتحدّث فيه عن حياته قبل النكبة وبعدها، وبشكل خاصّ عن لحظة تهيجره هو وعائلته من فلسطين وسقوط قريته في يد اليهود والمذابح الّتي ارتكبها الصهاينة وغيرها من القضايا الّتي تتضمّنتها أسئلتنا. صديقتي الخائنة أخبرتني عن رواية لكاتب لبنانيّ اسمها «باب الشمس»، تحوي الكثير من القصص والحكايا عن النكبة. اقترحت هي أن أقوم أنا بقراءتها والاستفادة من بعض القضايا المعروضة فيها عندما نضع أسئلتنا للعجوز.

طلبْتُ من الخائن أن يؤمّن لنا هاتف واحد من أفراد العائلة. أحضرت له عشيقته هاتف حفيد العجوز. اتّصلنا به منْ مقرّ الجريدة وذكرنا له ما نريد. كان رفضه مطبقًا ومفاجئًا معًا، وحين حاولت أن أسأله عن الأسباب أغلق الهاتف في وجهي. حاولنا معاودة الاتّصال مرارًا، وفي كلّ مرّة يصرخ الشابّ ويطلب منّا التوقّف عن إزعاجه. اقترح الخائن أن يتحدّث إلى عشيقته ويطلب منها المساعدة مع أقاربها. بعد يومين أخبرنا أنّ عشيقته تعتقد بوجاهة مشروعنا لكنّها لا تظنّ أنّ العائلة ستوافق. حين سألناها عن السبب أخبرتنا أنّ العجوز مريض جدًّا وأنّ الموضوع قد يكون حسّاسًا له وفاتح جروح لا يحبّ تذكّرها. طلبْتُ منها أن تقنعهم بأنّ هدفنا هو حماية الذاكرة الفلسطينيّة نظرًا لأنّ الجيل الّذي شهد النكبة لم يبق منه الكثير. نظر إليّ الأصدقاء معجبين بفكرتي وهمسوا فيما بينهم:«باب الشمس». بعد أخذ وردّ لأكثر من عشرين يومًا وافقت العائلة ممثّلة بأكبر أبناء العجوز، لكنّها اشترطت أن تطّلع على النسخة النهائية من التحقيق قبل نشره.

دخلنا الشقّة بهدوء إذن. كان العجوز يجلس في صدر غرفة الضيوف على كرسيّ عليه فروة صوف وثيرة. تحلّق حوله عدد كبير من أفراد عائلته، ولوهلة شعرنا بأنّنا صحفيّون مهمّون فعلًا. قدّم لنا ابنه الكبير الشاي وقطعًا من الحلوى. وبدأنا نتحدّث مع الجلوس حديثًا عامًّا حول عملنا وحياتنا. كان الخائن أقلّنا اهتمامًا بالحديث، وقد لمحته يحدّق في واحدة من فتيات العائلة. بعد فترة عمّ صمت، وكانت نظرة العائلة إلينا توحي بضرورة الإسراع فيما جئنا من أجله. جلسنا نحن الأربعة أمام العجوز، عرّفنا عن أنفسنا، وبدأت أنا حسب الاتّفاق بتوجيه الحديث إليه.

- "يسرّنا أنا وزملائي هنا أن نجلس أمامك ونستمع إلى ما تحبّ أن تشاركنا به من ذكريات وقصص حول النكبة. وكي لا نطيل عليك الحديث  فإنّا نودّ أن نطرح بعض الأسئلة الّتي نتمنّى أن تجيب عنها".

حضّرت المترجمة جهاز التسجيل، وأخرج الخائن آلة التصوير، وشغّلت الخائنة لوحها الذكيّ.

- "لدينا عشرة أسئلة، سنقسّمها إلى مجموعات، وسنبدأ بالمجموعة الأولى، وبإمكانك البدء بالسؤال الّذي تحبّه".

نظرنا إلى العجوز كي نرى ردّة فعله على هذه المقدّمة، لكنّ وجهه لم يوح بشيء. واصلت.

- "المجموعة الأولى تحوي ثلاثة أسئلة:

1. ما السبب الأساسيّ الّذي دعاكم للرحيل عن قريتكم في فلسطين؟ هل هي أخبار المذابح الّتي كانت تحدث في القرى الأخرى؟ هل سمعتم مثلًا بمذبحة دير ياسين قبل أو بعد الخروج من القرية؟

2. كان عمرك كما فهمنا خمسة عشر عامًا وقت النكبة. هل تتذكّر كيف كانت علاقة الناس في قريتكم مع اليهود قبل النكبة؟ هل كنتم تختلطون بهم؟ ماذا كنتم تتحدّثون عنهم؟

3. صِفْ لنا لحظة التهجير كما تتذكّرها. ماذا فعلتم بالضبط؟ ماذا أخذتم معكم؟ أين توجّهتم؟".

توقّفت بعد هذه الجملة وطالعت وجه العجوز ووجوه زملائي. أظنّني أبليت بلاءً حسنًا لكنّي لم أَرَ أثرًا لكلامي على العجوز. ابتسم ابنه الكبير وحاول تلطيف الجوّ عبر تغيير الموضوع إلى وجهات أخرى لكنّا بقينا ننتظر أيّ تصرّف من العجوز. اقترب منّي حفيده وهمس في أذني بضرورة إلغاء المشروع كلّه إن لم يتحدّث جدّه خلال دقيقة أو دقيقتين. وافقت على مضض كي أبعده عنّي لكنّي في داخلي كنت راغبًا فعلًا في الاستماع لحكاية العجوز. نادتني المترجمة واقترحَتْ أن أقدّم المجموعة الثانية من الأسئلة. خِفْتُ من تشتيت العجوز والحضور جميعًا بكثرة الأسئلة، لكنّي وجدت اقتراحها مخرجًا من الصمت الّذي عمّ المكان.

- "ما رأيك يا عمّي أن أعرض المجموعة الثانية من الأسئلة؟ تحوي هذه المجموعة ثلاثة أسئلة كذلك، ويمكنك الإجابة عنها جميعًا أو اختيار ما تريده. بإمكاني أيضًا إعادة أسئلة المجموعة الأولى إن أحببت:

4- ماذا حدث أثناء التهجير؟ هل قابلتم اليهود؟ هل سقط من قريتكم ضحايا؟

5- هل حدثت أيّة نزاعات أو خلافات بين أهل القرية أثناء التهجير؟ مَنْ كان يصدر التعليمات والأوامر؟ مَنْ نظّم عمليّة الرحيل؟

6- سمعنا أنّ الفلسطينيين كانوا يحملون بعض حيواناتهم معهم. صِفْ لنا ذلك".

كأنّ شيئًا لم يحدث. ذات الصمت والبرود القاتلين. نظر الحفيد إليّ نظرة مفادها أنّ مشروعنا لن يتحقّق. سألني الابن الكبير إن كنت أرغب في المواصلة. خطر في ذهني أن أقفز عن أسئلة المجموعة الثالثة وأتّجه إلى السؤال الختاميّ الّذي جعلناه ملجأً أخيرًا لنا. قضينا وقتًا لا بأس به ونحن نضع صياغة مناسبة لسؤال مستفزّ ومتعاطف معًا. غمزني الخائن بطرف عينه وكأنّه أدرك ما أفكّر فيه. كنت قد كتبت السؤال الختاميّ على قصاصة من ورق وضعتها في جيب بدلتي الداخليّ. مددت يدي وأخرجت الورقة.

- "لست مضطّرًا يا عمي للإجابة الفوريّة عن هذه الأسئلة. بإمكاننا ترتيب زيارة أخرى إن أحببت. أردنا فقط أن نضعك في صورة ما نحتاجه منك من معلومات. هناك سؤال ختاميّ فكّرنا فيه أنا وزملائي كطريقة لإنهاء المقابلة الّتي سننشرها معك. أرجو أن تفكّر فيه جيّدًا يا عمّي. لا تتخيّل حجم الفائدة الّتي ستترتّب على شهادتك هذه. نحن في حرب ذاكرة يا عمّي. أنت جزء من هذه الحرب وعلينا جميعًا أن نضع قصّتنا أمام العالم كيّ...".

- "اطلعوا برّة يا ولاد الشرموطة".

 


عمر خليفة

 

 

كاتب وأكاديمي، على شهادة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من «جامعة كولومبيا» في نيويورك، ويُدرّس الأدب العربيّ في «جامعة جورج تاون» الأميركيّة. صدرت له مجموعة قصصيّة بعنوان «كأنّني أنا» (2011)، وكتاب «Nasser in the Egyptian Imaginary» (2016)، ورواية «قابض الرمل» (2020).